فصل: الجملة الثالثة في المكاتبات الصادرة عن أتباع ملوك الغرب إليهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن أتباع ملوك الديار المصرية إليهم:

والمختار منها أسلوبان:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بالدعاء:
مثل أن يدعى بعز الأنصار، أو إدامة السلطان، أو تخليده، أو إدامة بسطة السلطان، أو إدامة الأيام ونحو ذلك. ويخاطب السلطان فيه بمولانا، ويعبر المكتوب عنه عن نفسه بالمملوك، ويختم بالدعاء. وهي طريقة القاضي الفاضل ومن تلاه من كتاب الدولة الأيوبية بالديار المصرية.
قال ابن شيق في معالم الكتاب: ولا يقال في مخاطبة السلطان: سيدنا مكان مولانا، وإن كان السيد من الألقاب السلطانية، لأن لفظ سيدنا مما اصطلح عليه لأكابر المتعممين من الفقهاء والقضاء والكتاب، فاجتنب في حق السلطان كي لا تقع المشاركة بينه وبين غيره في الخطاب.
وهذه نسخة كتاب من هذا الأسلوب كتب به إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب في جواب كتاب ورد منه بالبشارة بفتح خلاط وهي: أدام الله سلطان مولانا الملك العادل وزاده من فضله، ومد على خلقه وارف ظله، وأظهر به دينه على الدين كله، وأوضح إلى مرضاته ما يسلكه من سبله، ولا عدمت يد الإسلام والمسلمين التعلق بوثيق حبله، وفرج به الخطط المطبقة، وفتح به البلاد المستغلقة، وأخضع لطاعته الأعناق، وعم بفتوحه الآفاق، ودمر الكفر بمقامه، وطوى أيامهم بما ينشره ويديمه من أيامه، وأنزل النصر في مواقف النزال بما ترفعه راياته من أعلامه.
وقف المملوك على ما أنعم به مولانا: من كتاب البشارة التي وصلت إلى كل قلب وسمع، وأمل بها كل مسلم كل خير ونفع، وعلم ما وراءها من جمع شمل كان عزيز الجمع، وعلم ما يتبعها من عواطف مولانا التي عودها منه أكرم طبع، وتحقق أن اله سبحانه قد قلد الدين منه سيفاً خلقه للوصل وخلق السيوف للقطع.
وبالجملة إن الله سبحانه نظر إلى هذه الملة بنظر مولانا لها، وكفالته لأهلها، وسياستهم بشرف السجية وعدلها، وإن كل ما اختلس الملك الناصر رحمه الله فإن الله يتمه على يديه، ويجبر به تارة بصفحه وتارة بحديه، ويهب له عمراً نوحياً إلى أن لا يذر على الأرض من الكافرين دياراً، وإلى أن يورث الإسلام بسيفه منهم أرضاً ومالاً ودياراً؛ وهذه مخايل لا يخلف الله بارقتها؛ بل يرد إلى جهة الكفار صاعقتها، فما يحسب المملوك أن جانباً يتلوى على طاعة مولانا ولا ينحرف، ولا أن كلمة عليه بعد اليوم تختلف، ولا أن ممتنعاً بالأمس يكون معه اليوم إلا أن يرضى عنه مولانا وعليه ينعطف.
وعلى هذا فالشام الفرنجي متأخذ بجناح إلى الأخذ وبقية عمر المؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم لا ثمن لها، والفرص تمر مر السحاب، والمستعاذ بالله من حسرات الفوت بعد الإمكان {ولينصرن الله من ينصره} وما يشخص لخطاب الله تعالى بالجهاد إلا مولانا: النية خالصة، والبصيرة ثاقبة، والعزيمة ماضية، والشجاعة منحة من الله له موهوبة، والسماحة خليقة من خلائقه الكريمة موجودة، والرجال تطأ عقبيه، والملوك تطيع أمره والشجعان تبذل أنفسهم بين يديه، والعدو يعرف منه خصماً طالما خاطبه بلسان السيف منه إليه. وليس كل من قدر عليه أراده، وعكا أقرب من خلاط وأنفع للمسلمين فتحاً، وأعظم في الكفار قدحاً؛ فوالله لئن انغلق باب الشام في وجه الكفر، لتنقطعن آمال أهل البحر والبر؛ وما دام في الشام بقية من الكفر فهو يقبل الزيادة، وينتظر النجدة ويؤمل الاستعادة؛ وما كرر المملوك هذا الحديث جعلاً بما يجب في خدمة الملوك من الأدب في أن يتكلم في القضية إلا من استشير فيها، ولا يجترئ على الكلام إلا إذا كان مجيباً بما يؤمر بالإجابة عنه، ولكن المملوك غلب على الصحبة، وانقطع عن الخدمة، وعلم أنه لو كان حاضراً لكان مولانا يبسطه ولا يقبضه، ويستشف ما عنده ويستعرضه، ويشفع قلبه في لسانه إذا هفا، ويحمله على صفاء ضميره فيما يقوله فلا يقابل بالتكدير من صفا؛ فقد علم الله أن المملوك يتمنى للمسلمين أن يرد عليهم حقهم، وترجع إليهم بلادهم، وأن تكون هذه الأمنية جارية على يد مولانا ومستفادة من عزيمته، ولكن أبواب قدرة الله مفتوحة، فالله يجعل منها أن يفتح على مولانا فيها بلاد الساحل، وأن يأخذ للإسلام به أهبة المقيم وللمقيم أهبة الراحل؛ وما يخلط المملوك هذا المهم بغيره، طالع به، ولمولانا علو الرأي.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بيقبل الأرض مصدراً بالمملوك:
وهي من مصطلحات الدولة الأيوبية أيضاً إذا كان المكتوب عنه دون من تقدم.
كما كتب القاضي الفاضل عن نفسه إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يهنئه بمولود ولد له: المملوك يقبل الأرض بالمقام العالي الناصري نصر الله الإسلام بمقامه، وأهلك أعداء الحق بانتقامه، ولا أعدم الأمة المحمدية عقد اعتزائه بكفالتها ومضاء اعتزامه.
يهنئ المملوك المولى بنعمة الله عنده وعند الإسلام وأهله بمن زاده في ولده، وكثره في عدده؛ وهو الأمير أبو سليمان داود أنشأ الله إنشاء الصالحين، ومن الله بكمال خلقه، ووسامة وجهه، وسلامة أعضائه، وتهلل غرته، وابتسام أسرته؛ ودل على أن هذا البيت الكريم فلك الإسلام لا يطلع فيه إلا البدور، كما دل على عناية الله بأبيه، فإن الله تعالى قال: {يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور} فطريق المولى هذه قد توالت فيها البشائر، ونصر الله فيها بألطاف أغنت لطف الخواطر عن قوة العساكر، واشتملت عليه في الغائب من أمره والحاضر {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وكيف يحصيها المحصي ويحصرها الحاصر، أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟.
فالحمد لله الذي جعل كتب المولى إلى أوليائه وكتبهم إليه مبتسمة عن المسار، ناطقة بأطيب الأخبار، منكشفة أسرارها عما يروح الأسرار؛ وهذا الولد المبارك هو الموفي لاثني عشر ولداً، بل اثني عشر نجماً متوقداً. فقد زاد الله في أنجمه عن أنجم يوسف عليه السلام نجماً، ورآهم المولى يقظة ورأى ذلك الأنجم حلماً؛ ورآهم ساجدين له ورأينا الخلق له سجوداً، وهو سبحانه قادر أن يزيد جدود المولى إلى أن يراهم آباء وجدوداً.

.الجملة الثالثة في المكاتبات الصادرة عن أتباع ملوك الغرب إليهم:

والمختار منه أربعة أساليب:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بلقب المكتوب إليه:
مثل: المقام أو الجناب، وينعت، ثم يقال: مقام فلان، ثم يؤتى بالسلام ثم بالبعدية، ويؤتى بخطبة، ويتخلص إلى المقصد، ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام.
كما كتب ابن البناء عن ابن خلاص إلى أمير المسلمين الواثق بالله أبي بكر بن هود، في جواب كتاب ورد عليه منه ما صورته:
المقام العلي، الواثقي المعتصمي، المبارك السامي السني، معدن الفضل ومقره، ومسحب ذيل الفخر ومجره، ومناط حمل أمانة المسلمين التي لا يحملها إلا أبلج الشرف أغره، ولا يتقلد قلادتها إلا تقي المنشأ بره؛ مقام مولانا جمال الملك وبهائه، والباعث في معطفه أريحية النجابة وادهائه، الأمير الأجل المعظم، المكبر الهمام المكرم، المبارك الميمون السعيد، الموفق الرشيد، المظفر المؤيد، المرفع الممجد، ولي العهد، وواسطة عقد المجد، ولملبس سرابيل اليمن والسعد، الواثق بالله، المعتصم به، أبي بكر ابن مولانا مجد الإسلام، وجمال الأنام؛ ومجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، المتوكل على الله تعالى أمير المسلمين، أبقاه الله وارداً من مشارع التأييد أعذبها، متخولاً من صنع الله الجميل ما يسدد أبعد الأمة وأقربها؛ ممتداً مد السعادة ما جلت غرة الفجر حندس الظلماء وغيهبها. عبد بابه الأشرف، ومملوك إحسانه الأسح الأذرف، مسترقه الآوي إلى ظل سلطانه الأمد الأورف، الحسن بن أحمد بن خلاص.
سلام الله الطيب الكريم وتحياته، يعتمد الواثقي المعتصمي ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي له الأمر من قبل ومن بعد، والصلاة على سيدنا محمد نبيه الذي ترتبت على اجتنابه الشقاوة ووجب باتباعه السعد، وعلى آله وصحبه الذين ناضلوا عن ديانته حتى وضح السنن وبان القصد- والرضا عن خليفته وابن عمه الإمام العباسي أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور المستنصر بالله، وارث شرفه النبوي، ومجده الهاشمي، بخصائصه التي لا تعفي أنوارها الأبكار، ولا يطمس آثارها الحجر. وعن مولانا مجد الإسلام، جمال الأنام؛ مجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، المتوكل على تعالى أمير المسلمين؛ ذي العزمات التي لا تغني غناءها الذبل التي منبتها الخط، ولا القضب التي منشؤها الهند. والدعاء لمقام الثقة والاعتصام، ومقر الإحسان والإنعام، بالنصر الذي يؤازره الظفر، ويظاهره العضد.
فكتبه عبد المقام الواثقي المعتصمي- كتب الله له تأييداً يحفظ على الدين نظامه، وتخليداً يرث ليالي الدهر وأيامه- من إشبيلية حرسها الله تعالى، وللبركات المتوكليات والواثقيات بها انثيال كما تتابع القطر، وسطوح كما ابتسم في مطالعه الفجر، وتعهد لا تزال تقربه العين وينشرح له الصدر؛ والخدمة اللازمة للمثابة العلية الواثقية المعتصمية- أعلى الله مكانها، وشيد بعضده أركانها- فرض لا يسع تأخيره، وحق لا يعلق به تفريط المتلقد له ولا تقصيره، ولازم من اللوازم التي لا يشغل بسواها سر المملوك ولا ضميره؛ والله ينجد من ذلكم على ما يتسوغ به صفو المن ونميره. وإن الخطاب الكريم الواثقي شرف الله منازعه، ونور بأنوار السعادة مطالعه، ورد على العبد مشيداً بذكره، معلياً، من قدره، مسمياً لتربة فخره، متضمناً من واسع الإنعام وغمره ما لو وزع على العالم لشملهم بأسره، وأغرقهم بفيض يسير من بحره؛ فتنأوله المملوك بيمين إجلاله وإعظامه، ووفى الواجب من لثمه واستلامه، وألفى به رياً ناقعاً لغليل الشوق المبرح إلى اجتلاء غرته الكريمة وأوامه؛ وجعل يتتبع سطوره، ويستقري فقره وشذوره، فلا يقف من ذلكم كله إلا على ما يملأ حوباءه جذلاً، ويخوله الابتهاج غنماً ونفلا؛ ويبوئه أسنى مراتب التشريف قنناً وقللاً؛ وهو على ما حكمت به الأقضية من شحطه عن المثابة الواثقية شرفها الله وشسوعه، وإيواء مغاني أنسه لذلكم ورجوعه؛ لا يجد أنساً إلا ما يتوالي قبله من متعهد اهتمامها، وتهديه إليه ألسنة أقلامها؛ فكلما وفد عليه من صحائفها المكرمة وافد، وورد من حضرتها المعظمة وارد؛ فقد جدد الزمان عنده يداً غراً، وأطلع عليه بدراً، وأفاده من الابتهاج ما يعمر الخلد، وينشر نسيم الاستبشار إذا سكن وركد؛ وما ينفك على نأي المكان، وبعد الأوطان، يحافظ على رسمه من خدمها، ويؤدي وظائف الشكر بجسيم منحها وعميم نعمها، ويجعل على نفسه المتملكة رقيباً من أن يخل في سر أو جهر بعهد من عهودها أو ذمة من ذممها؛ ومهما تجدد صنع يتعين إهداؤه، ويجب قضاء الحق بالدلالة عليه وأداؤه؛ لم يصحبه في المطالعة به توان، ولم يعبر في جلائه أواناً إلى أوان. وقد كان قدم مطالعاته قبل إلى الباب الواثقي شرفه الله باسطاً لتفاصيل الأحوال، وشارحاً لها على الاستيفاء والكمال؛ ولم يتجدد بعد ذلك إلا تمكن الرجاء في فتح لبلة يسر الله مرامها عن دنو بحول الله وقرب، وأنطق لسان الحال بتيسير كل عصي من محاولاتها وصعب. ولو أن مكاناً عضه الدهر من أنياب حوادثه الجون بما به عضها، وفض الحصار أقفالها التي فضها منه ما فضها، لكان قد ذهب شميسه، وخفي عن أن يسمع حسيسه؛ لكن أبى الشقاء الغالب على أهلها إلا أن يمد عليهم أمد العذاب، ويرخي لهم طول المهلة الشفية بهم كل يوم مهاوي الخسار والتباب، حتىي بلغ الكتاب فيهم أجله، ويصل إلى الحد الذي شاء الله أن يصله؛ فيأخذهم أخذ من عمي عن إدراك الحق بصره وبصيرته، وخبث في معاندته سره وسريرته؛ ويرجى أن الوقت في ذلكم دان بإمكان، والله تعالى يديم للمقام الواثقي ما عوده من توالي السعود واطرادها، وإصحاب الآمال وانقيادها؛ وسلام الله الطيب يراوحها ويغاديها، وتحياته، ورحماته الموصولة وبركاته.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بالحضرة:
وتوصف ويدعى لها، ثم يقع التخلص إلى المقصد، ويختم بالدعاء والسلام.
كما كتب أبو المطرف بن عميرة إلى المتوكل بن هود القائم بالدعوة العباسية بالأندلس عن بعض أتباعه عند ورود كتابه عليه بخبره بفتح من الأندلس وقتل الثائر بها، وهو: الحضرة العلية أبقى الله ظل ملكها على العباد، وعرفها من تأييده وإنجاده أفضل المعتاد، وجعل لها من الملجأ إليه والتوكل عليه أكثر الجموع وأكثف الأعداد، ولا زالت أحاديث نصرها سالمة المتون صحيحة الإسناد، وصحائف فتوحها تجمع صلاح العباد، وتطلع صباح البشائر من ليل المراد؛ عبدها ومملوكها، السالك من الخدمة والنصيحة الطريق التي يجب سلوكها، فلان.
وبعد: فكتب العبد- كتب الله للمقام العلي المجاهدي المتوكلي سعداً يرد الصعاب ذللاً، ويسد من المكاره سبلاً؛ وأمده بملائكة رسله جاعل الملائكة رسلاً- من فلانة وبركاته مروية للظماء وحركاته مسكنة للدهماء، وآثاره في يومي سلمه وحربه آثار الأشداء على الكفار والرحماء؛ والأرض بوضوح محياه، وفتوح أسنته وظباه، تهتز أعطافا، وتعتز مواسط وأطرافاً، وتبرز في أثوابها القشب فيزداد حسنها أضعافاً؛ والأيام بالبشائر التي فضت ختامها عفواً على قدر، وقضت مسامها صفواً بلا كدر؛ لها أنف الشامخ تيها، ووجه الضاحك المتهلل إشادة بحالها وتنويها، ودلالة على رحب مجالها وتبيها. والحمد لله حمد من عرف قدر نعمائه فوفي حق أسمائه تقديساً وتنزيها. وإن الخطاب العلي الأيد والقهر، رافعاً منسأة الحوادث بإحدى حسنات الدهر؛ فيال له من كتاب! أودع بدائع الكلم، وجوامع البيان الملتئم المنتظم؛ لو استمد سناءه أول الفلقين لم يك كاذباً، ولو أعير محياه ثاني الشفقين كان عن ضوء النهار نائباً؛ ذكر بأيام الله المشهودة بالملائكة والروح، ومد باع الكلام في فتح الفتوح؛ وأطال ذيول القول مفتاحاً منه للصعب الجموح، فكان الغزير الصيب، والكثير الطيب؛ والمتبع إن مضى بقلوب وأسماع، والمضاعف حسنه إن كرر إلى انقطاع. كيف لا؟ وقد بشر خبره بالمراد في المراد، وأوقع اليقين بما خرق العادات من الإسعاف والإسعاد، وكان من آحاد الأخبار لا من أخبار الآحاد؛ ومما اقتصه ما جرى من أوائل الحركة السعيدة، واعترض من المتاعب الشديدة؛ وأن الشتاء كان في ابتدائه، والغيم ساحب لردائه، ساكب فضل أندائه. والمكاره في طيها النعم الجسام، والنفوس الكبار تتعب في مرادها الأجسام؛ ولذلك هانت على المقام العلي- أيده الله- تلك المشاق، ورجى من عمله ونظره ما جنى من ثمرة العاق؛ فسار إليه بالجحفل الأحفل، والعزيمة الزعيمة بفض المقفل، ورض الأعلى والأسفل؛ وقد اعتز بأجل المدائن شاناً، وأوثقها بنياناً، وأبعدها صيتاً ومكاناً؛ وهي التي أعيت رياضتها كل رائض، وسخرت بكل قاعد بقنونها رابض؛ وجمع إليها من طرد الآفاق، وأعداد الاجتماع والاتفاض، أتباع كل ناعق، وأشياع كل ما ورد مارق، فاستحلوا الدماء، وركبوها مضلة عمياء، وأدرك كل منهم مما شاء للإسلام ما شاء، وعدو الله يفتل لهم في الذروة والغارب، ويضرب لهم سكان البلد ضرب الغرائب؛ حتى أباد خضراءهم، وجعلهم شر خلف فيمن وراءهم؛ غير مبال بما احتقب من الجرائر، واقترف من إباحة الحرائر، فاجترأ مدة بالجلاء، وازداد إثماً بالإملاء؛ وحينئذ سمت إليه عساكر الإسلام، ونأولته بالموت الزؤام، ورأى عياناً ما كان يطير إليه قلبه لو رآه في المنام؛ وتداولته المطأولة المستدرجة، والعاجلة المزعجة؛ وفي كل ذاق عذاب الهون، فأحسن بقاصمة المتون وقاضية المنون؛ وانقسمت شدته إلى المهلكين: خوف وإعدام، واستكملت تسعة أشهر وكان الفتح عندها لتمام؛ وإنه للولد الذي هنئ به الإسلام، وضنت بمثله الأيام، واستبشر بوجود الأنام؛ فما أعلى مقامه! وأبهج يومه وأسعد عامه! ولا غرو أن تكون غرته أبهى الغرر، ومفتتحه مباركاً كالبشر؛ وقد أسفر عن أيمن وجه النجح، وخرج من عموم الأيام بمخصص هذا الفتح؛ وانتقم الله فيه من الشقي الظالم، العظيم الجرأة على ارتكاب المظالم؛ فطاح بموبق أعماله، وعجل الله به إلى ما أعد لأمثاله؛ وكان دمه شر دم أريق، وأديمه أخبث أديم لاقى التمزيق.
والحمد لله الذي نصر الراية العباسية وأعلاها، وأظهر آية عنايته وجلاها، وأسبغ نعمه الجسيمة ووالاها. وحين ورد هذا النبأ العظيم كان أندى من قطر الندى على الأكباد، وسرى في البلاد سريان الأرواح في الأجساد، وكلفت به الأسماع والأسمار، وسمت به وإليه الأمصار والأبصار؛ واستقر من ارتجاع البلد، وانتزاع النفس الذاهبة إلى جري الأبد، حكمان مدركهما الفعل والإقرار، وعملان تم بهما المراد والاختيار؛ فرفعت الأدعية إلى سامعها، وغصت الأندية بحاضري مجامعها؛ وذاع بالبشرى فيا حسن ذائعها وشائعها، وأذعنت الآمل لإدناء نازحها وشاسعها، وأخذ العبد من المسرة بحظ أخلص العبيد مشهداً ومغيباً، وأجمعهم لمعالي الجد تطنيباً، ولمعاني الثناء والحمد تطييباً، وجدد من شكر الواهب لجزيل هذه الهبة، والفاتح لأعظم المعاقل الأشبة ما يستغرق المدد، ولا يبلغ الأمد؛ وأنى لمثلي أن يصف البشرى الواصلة، أو ينصف المقالة المتطأولة، ولو حلب أشطر الإحسان، وجلب أبحر البيان؛ وكيف والفكر قد قعد حصراً، والمدى لا يؤاخذه التقدير قسراً، والقول لا يجيب مطولاً ولا مختصراً؟ فحسبه دعاء هو له رافع، ولأوقات الخلوات به قاطع، وإلى الله سبحانه في قبوله ضارع؛ والله يجيب في المقام العلي المتوكلي أفضل دعاء الخلق، ويضاعف له مع السابقين ثواب السبق، ويجزيه خير الجزاء عما أزاله من الباطل وأداله من الحق؛ وهو تعالى ينصره يوم الباس، ويعصمه من الناس، ويبقي رفده للاكتساب ونوره للاقتباس، ويعرفه في كل ما يستنبطه من أصل التوكل صحة القياس، بمنه والسلام.
الأسلوب الثالث: أن تفتتح المكاتبة بأما بعد:
ويتخلص إلى المقصد ويختم بما يناسب المقام كما كتب أبو المطرف بن عميرة إلى المتوكل بن هود المقدم ذكره، عن نفسه، يهنئه بوصول هدية الخليفة العباسي إليه من بغداد: أما بعد، فكتب العبد- كتب الله للمقام العلي الناصري المتوكلي مجداً يحل الكواكب، وجداً يفل الكتائب. من شاطبة، وبركات دعوته السعيدة قد طبقت البسيطة، وكاثرت البحار المحيطة، وأنجزت للإسلام أفضل مواعده، وجددت عهده لأهل بيت النبوة الرافعة لقواعده، وفسحت له مجال البشرى، وأطلعت عليه أنوار العناية الكبرى؛ فعاد إلى الوطن، ووجد حال السهد طعم الوسن، وأورق عوده واتسقت سعوده، وعاد إلى صحته بالنظر الإمامي الذي جاء يعوده. وحين صدور رسول دار السلام، ومثابة أهل الإسلام، ومقعد الجلالة، ومصعد إقرار الرسالة؛ ومعه الكتاب الذي هو غريب، أنس به الدين الغريب، وبعيد الدار نزل به النصر القريب، وآية بأدلتها الصادقة لتبطيل الشبه الآفكة، وسكينة من ربنا وبقة مما ترك آل نبنا تحمله الملائكة- اطمأنت القلوب، وحصل المطلوب، ودرت أخلاف الإيناس، وارتفع الخلاف بين الناس، وعلموا أن السالك قد أضاءت له المحجة، والحق لا يعدو من بيده الحجة؛ وأن من أمرته الخلافة العباسية فطاعته تجب قطعاً، ومخالفته تحرم شرعاً؛ ولم يبق إلا أن يبين للعيان شخصه، ويرد على الآذان نصه؛ فيكون يومه غرة الليالي المعتكرات، وعلم الأيام المنكرات، واليوم الذي به تؤرخ الأيام المستقبلية، وترفع فيه الأعمال المتقبلة. وبإقبال الركاب السعيد إلى هذه ينزل به من سماء العلياء محكم وحكمة، ويصل به إلى الأنام فضل من الله ونعمة، ويقتضى دين على الأيام، لا يبقى معه عسرة، ويوجد جبر للإسلام، لا يكون بده كسره، وشفاء لقلوب الأولياء هو للأعداء حسرة.
الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بالخطاب بلفظ سيدي أو مولاي:
مع حرف النداء أو دونه كما كتب أبو عبد الله بن الخطيب وزير ابن الأحمر صاحب الأندلس عن نفسه إلى السلطان أبي عنان ابن السلطان أبي الحسن المريني صاحب فاس، عند ورود كتابه إلى الأندلس بفتح تلمسان، معرضاً بأن صدور كتابه من عند قبر والده السلطان أبي الحسن بالأندلس، ما صورته: مولاي! فاتح الأقطار والأمصار، فائدة الأزمان والأعصار؛ أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار، قدوة أولي الأيدي والأبصار، ناصر الحق عند قعود الأنصار، مستصرخ الملك الغريب من وراء البحار، مصداق دعاء الأب المولى في الآصال والأسحار. أبقاكم الله! لا تقف إيالتكم عند حد، ولا تحصى فتوحات الله عليكم بعد، ولا يفيق أعداؤكم من كد، ميسراً على مقامكم الكريم ما عسر على كل أب كريم وجد.
عبدكم الذي خلص إبريز عبوديته لملك ملككم المنصور، المعترف لأدنى رحمة من رحماتكم بالعجز عن شكرها والقصور، الداعي إلى الله سبحانه أن يقصر عليكم سعادة القصور، ويذلل بعز طاعتكم أنف الأسد الهصور، ويبقي الملك في عقبكم إلى يوم ينفخ في الصور. فلان.
من الضريح المقدس: وهو الذي تعددت على المسلمين حقوقه، وسطع نوره وتلألأ شروقه، وبلغ مجده السماء لما بسقت فروعه ورسخت عروقه، وعظم بتبوئكم فخره فما فوق البسيطة فخر يفوقه، حيث الجلال قد رست هضابه، والملك قد سترت بأستار الكعبة الشريفة قبابه، والبيت العتيق قد ألحفت الملاحد الإمامية أثوابه، والقرآن العزيز ترتل أحزابه، والعمل الصالح يرتفع إلى الله ثوابه، والمستجير يخفي باطنه سؤاله فيجهر بنعرة العز جوابه؛ وقد تفيأ من أوراق الذكر الحكيم حديقة، وخميلة أنيقة، وحط بجودي الحق نفساً في طفوان الضر غريقة، والتحف برق الهيبة الذي لا تهتدي للنفس فيها إلا بهداية الله طريقة، واعتز بعز الله وقد توسط جيش الحرمة المرينية حقيقة، إذ جعل المولى المقدس المرحوم أبا الحسن مقدمة وأباه وجده سقاه المولى الكريم بهذا المجد سيب رحماه، وطنب عليه من الرضا فسطاطاً، وأعلى به يد العناية المرينية اهتماماً واغتباطاً، وحرر له أحكام الحرمة نصاً جلياً واستنباطاً، وضمن له حسن العقبى التزاماً واشتراطاً؛ وقد عقد البصر بطريق رحمتكم المنتظرة المرتقبة، ومد اليد إلى اللطائف بشفاعتكم التي تتكفل بعتق المال كما تكفلت بعتق الرقبة، وشرع في المراح بميدان نعمكم بعد اقتحام هذه العقبة؛ لما شنفت الآذان البشرى التي لم يبق طائر إلا سجع بها وصدح، ولا شهاب دجنة إلى اقتبس من نورها واقتدح، ولا صدر إلا انشرح، ولا غصن عطف إلا مرح؛ بشرى الفتح القريب، وخبر النصر الصحيح الحسن الغريب، ونبأ الصنع العجيب، وهداية السميع المجيب: فتح تلمسان الذي قلد المنابر عقود الابتهاج، ووهب الإسلام منيحة النصر غنية عن الهياج، وألحف الخلق ظلاً ممدوداً، وفتح باب الحج وكان مسدوداً، وأقر عيون أولياء الله الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً، وأضرع بسيف الحق جباهاً أبية وخدوداً، وملككم حق أبيكم الذي أهان عليه الأموال، وخاض من دونه الأهوال، وأخلص في الضراعة والسؤال، من غير كد يغمز عطف المسرة، ولا جهد يكدر صفو النعم الثرة، ولا حصر ينفض به المنجنيق ذؤابته، ويظهر بتكرر الركوع إنابته.
فالحمد لله الذي أقال العثار، ونظم بدعوتكم الانتشار، وجعل ملككم يجدد الآثار ويأخذ الثار. والعبد يهنئ مولاه، بما أنعم الله عليه وأولاه؛ وما أجدره بالشكر وأولاه! فإذا أجال العبيد السرور فللعبد المعلى والرقيب، وإذا استهموا حظوظ الجذل فلي القسم الوافرة والنصيب؛ وإذا اقتسموا فريضة شكر الله تعالى فلي الحظ والتعصيب، لتضاعف أسباب العبودية قبلي، وترادف النعم التي عجز قولي وعملي، وتقاصر في ابتغاء مكافأتها وجدي وإن تطأول أملي؛ فمقامكم المقام الذي نفس الكربة، وآنس الغربة، ورعى الوسيلة والقربة، وأنعش الأرماق، وفك الوثاق، وأدر الأرزاق، وأخذ على الدهر بالاستقالة بالعهد والميثاق وإن لم يباشر العبد اليد العالية بهذا الهناء، ويتمثل بين يدي الخلافة العظيمة السنا والسناء، ويمد بسبب البدار إلى تلك السماء؛ فقد باشر به اليد التي يحن مولاي لتذكر تقبيلها، ويكمل فروض المجد بتوفية حقوقها الأبوية وتكميلها؛ ووقفت بين يدي ملك الملوك الذي أجال عليها القداح، ووصل في طلب وصالها المساء بالصباح، وكأن فتحه إياها أبا عذرة الافتتاح؛ وقلت يهنيك يا مولاي رد ضالتك المنشودة، وخبر لقطتك المعرفة المشهودة؛ ودالتك المودودة فقد استحقها وارثك الأرضى، وسيفك الأمضى، وقاضي دينك، وقرة عينك، مستنفذ دارك من يد غاصبها، وراد رتبتك إلى مناصبها، وعامر المثوى الكريم، وستر الأهل والحريم.
مولاي! هذه تلمسان قد أطاعت، وأخبار الفتح على ولد الحبيب غليك قد شاعت، والأمم إلى هنائه قد تداعت؛ وعدوك وعدوه قد شردته المخافة، وانضاف إلى عرب الصحراء فخفضته الإضافة؛ وعن قريب تتحكم فيه يد احتكامه، وتسلمه السلامة إلى حمامه؛ فلتطب يا مولاي نفسك، وليستبشر رمسك، فقد نمت بركتك وزكى غرسك. نسأل الله أن يورد على ضريحك من أنباء نصره ما تفتح له أبواب السماء قبولاً، ويرادف إليك مدداً موصولاً، وعدداً آخرته خير لك من الأولى، ويعتريه بركة رضاك ظعناً وحلولاً، ويضفي عليه منه ستراً مسدودلاً.
ولم يقنع العبد بخدمة النثر، حتى أجهد القريحة التي ركضها الدهر وأنضاها، واستشفها الحادث الجلل وتقاضاها؛ فلفق من خدمة المنظوم ما يتغمد حلمكم تقصيره، ويكون إغضاؤكم إذا لقي معرة العتب وليه ونصيره؛ وإحالة يا مولاي على الله في نفس جبرها، ووسيلة عرفها مجده فما أنكرها، وحرمة بضريح مولاي والده شكرها؛ ويطلع العبد منه على كمال أمله، ونجح عمله، وتسويغ مقترحه، وتتميم مطمحه، إن شاء الله تعالى:
يا ابن الخلائف يا سمي محمد ** يا من علاه ليس يحصر حاصر!

أبشر فأنت مجدد الملك الذي ** لولاك أصبح وهو رسم داثر!

من ذا يعاند منك وارثه الذي ** بسعوده فلك المشيئة دائر!

ألقت إليك يد الخلافة أمرها ** إذ كنت أنت لها الولي الناصر!

هذا وبينك للصريح وبينها ** حرب مضرسة وبحر زاخر!

من كان هذا الصنع أول أمره ** حسنت له العقبى وعز الآخر!

مولاي عندي في علاك محبة ** والله يعلم ما تكن ضمائر!

قلبي يحدثني بأنك جابر ** كسري وحظي منك حظ وافر!

بثرى وجودك قد حططت قريحتي ** ووسيلتي لعلاك نور باهر!

وبذلت سعيي واجتهادي مثل ما ** يلقى لملكك سيف أمرك عامر!

وهو الموالي الذي اقتحم الردى ** وقضى العزيمة وهو سيف باتر!

وولي جدك في الشدائد عندما ** خذلت علاه قبائل وعشائر!

فاستهد مه النجح واعلم أنه ** في كل معضلة طبيب ماهر!

إن كنت قد عجلت بعض مدائحي ** فهي الرياض وللرياض بواكر